مؤتمر حل الدولتين- بارقة أمل في ظل حرب غزة؟

المؤلف: حسن أوريد08.21.2025
مؤتمر حل الدولتين- بارقة أمل في ظل حرب غزة؟

قد يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: ما الجدوى المرجوة من مؤتمر دولي مُكرَّس لحل الدولتين، والذي استضافته رحاب الأمم المتحدة برعاية حثيثة من فرنسا والمملكة العربية السعودية في نهاية الشهر المنصرم، في ظل الغياب المؤسف للولايات المتحدة، بل ومعارضتها الصريحة له، وتصريح إسرائيل بضم الضفة الغربية، واستمرارها المروع في سفك الدماء في غزة، عبر أبشع أساليب القهر والتنكيل؛ ألا وهو التجويع الممنهج، وما يصاحبه من نزع لكرامة الإنسان وإنسانيته؟

ما الجديد الذي يمكن أن يحمله هذا المؤتمر على أعتابه، والأرض في الضفة الغربية، مع سلسلة المستوطنات المتنامية، تعج بالثقوب التي تجعل قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ضرباً من الخيال، في ظل التدمير شبه الكامل الذي لحق بغزة؟ أليس هذا المؤتمر مجرد تمرين لفظي دبلوماسي لذر الرماد في العيون؟ وما قيمة البيانات والبلاغات، أمام منطق القوة الغاشمة، والتمادي في الغطرسة والتعنت؟

كلا، الأمر ليس كذلك. فالمؤتمر يقدم إجراءات عملية ملموسة على مستويات زمنية مختلفة. فهو يسعى، على المستوى الآني، إلى وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية الضرورية عن طريق الأمم المتحدة والصليب الأحمر، وإطلاق سراح الأسرى. وعلى المدى المتوسط، يتبنى المؤتمر خطة الإعمار العربية الإسلامية الشاملة. أما على المدى البعيد، فيضع المؤتمر الأساس المتين لحل الدولتين.

إننا إزاء مرجعية قوية، مدعومة بحشد دولي رفيع المستوى، وتحظى بغطاء الأمم المتحدة، تقدم تصورا مغايراً تماماً للتصور الذي دأبت الولايات المتحدة على تقديمه منذ اتفاق أوسلو عام 1993، أو ربما منذ مخطط ريغان عام 1981 لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

لم تعد الولايات المتحدة تلتزم بمعادلة "الأرض مقابل السلام"، ولا بدور الوسيط النزيه، بل تسعى إلى فرض عقد إذعان يتناقض مع كلا المبدأين السابقين. جوهر خطاب الولايات المتحدة، الذي تعبر عنه بوضوح وصراحة، هو رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة، والانحياز الكامل واللامشروط إلى جانب إسرائيل.

والمرجعية الأساسية التي تحكم سياسة الولايات المتحدة هي "اتفاق أبراهام"، الذي يهدف إلى التطبيع مع إسرائيل أولاً وأخيراً. فالتطبيع، من وجهة نظر الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يفضي إلى حل القضية الفلسطينية، بل إلى تصفيتها والقضاء عليها. فالولايات المتحدة لا تعارض ضم الضفة الغربية، وتتستر على إخلاء غزة من سكانها.

لكن تداعيات الحرب المدمرة على غزة قد أحدثت تصدعاً ملحوظاً في "اتفاق أبراهام". فالعلاقات بين إسرائيل وبعض الأطراف الموقعة على الاتفاق تشهد فتوراً وتقلبات واضحة، والمد الشعبي الرافض للتطبيع في العديد من البلدان لا يسمح لهذا المسار أن يبدو طبيعياً ومقبولاً، فيما تؤكد أطراف فاعلة ومحورية في المنطقة، مراراً وتكراراً، أن أي علاقة طبيعية مع إسرائيل لن تكون ممكنة إلا في إطار حل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.

لذلك يكتسب المؤتمر الدولي حول حل الدولتين أهمية قصوى؛ لأنه يعيد ضبط البوصلة، ويجعل حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي شرطاً أساسياً لعلاقات طبيعية لإسرائيل مع محيطها، وليس العكس، ويتبنى موقفاً صريحاً ورافضاً من التغيير القسري للبنية الديمغرافية، أي رفض التهجير القسري للفلسطينيين من أراضيهم.

سيكون من باب السذاجة الاعتقاد أن الإعلان الأممي عن حل الدولتين، كفيل بتعبيد الطريق إلى قيام دولة فلسطينية. فالمستوطنات التي أقامتها إسرائيل في الضفة الغربية، والتغييرات الديمغرافية التي أحدثتها في كل من الضفة والقدس الشرقية، والدمار الشامل الذي ألحقته بغزة، تجعل قيام دولة تتوفر فيها مقومات الحياة أمراً صعباً للغاية، هذا فضلاً عن الفيتو الأميركي الذي يحول دون قبول فلسطين عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة.

لكن الأهمية العظمى للمؤتمر تكمن في أنه يُبقي القضية الفلسطينية حية ومتوهجة، في الوقت الذي كانت الدبلوماسية الأميركية تسعى جاهدة لطمسها وتهميشها، واختزالها في مجرد نزاع عقاري، وفي مواجهة بين دولة "متحضرة" و"تنظيم إرهابي"، وفي عرض قائم على "الرخاء والازدهار"، في مقابل خطاب الكراهية، وما إلى ذلك من تبريرات واهية.

لقد أسفرت الحرب على غزة عن حقيقة دامغة لا يمكن التستر عليها أو تجاهلها، ألا وهي القتل والإمعان فيه، من قِبل إسرائيل، والتجويع الممنهج، في أبشع فصل من فصول المواجهة، حتى إن المؤيدين لإسرائيل لم يعودوا قادرين على إخفاء حقيقة ما يجري، وبدأوا في إطلاق مصطلح "الإبادة الجماعية" على أفعال إسرائيل.

يمكن لإسرائيل أن تروج لما تشاء، في خطابها ودعايتها المضللة، ويمكن للإدارة الأميركية أن تتبنى ما تشاء، من رواية إسرائيل الزائفة، وأن ترى ما تريد أن تراه، ولكنها لا تستطيع أن تحجب الحقيقة الساطعة، المتمثلة في صور الدمار الهائل الذي لم يوفر مسجداً ولا كنيسة ولا مستشفى، والقتل الذي استهدف الأطفال والنساء والشيوخ على وجه الخصوص، وصور الأجساد المنهكة بالجوع والهياكل النخرة للموتى أو لمن هم على وشك الموت. كلها صور تتحدث عن نفسها، وتنضح بالحقيقة المرة، وهي الصور التي تسكن وجدان العالم بأسره، ولن تستطيع الدعاية الإسرائيلية مهما بلغت من قوة أن تطمسها أو تمحوها.

يأتي المؤتمر الدولي في ظل هذا الواقع المروع، إذ سبق المؤتمر مبادرات عدة بشأن حل الدولتين، ومن بينها المبادرة العربية التي تم تبنيها في القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002، لكن أهمية المبادرة الأخيرة تكمن في أنها تأتي في سياق حرب لم يسبق لها مثيل، مع حشد دولي غير مسبوق.

وتأتي أهمية المؤتمر، مثلما ورد في البيان الختامي، من كونه يطلق دينامية دبلوماسية جديدة وفاعلة. فمن دون هذه الدينامية، سيصبح المؤتمر مجرد محطة عابرة من محطات البيانات التي تُعنى بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ولن يغير شيئاً على أرض الواقع.

أولى المحطات التي ينبغي أن تكون مجالاً للدينامية الدبلوماسية هي الجمعية العامة المقبلة للأمم المتحدة، لحشد مزيد من الدعم لمبادرة حل الدولتين، والتذكير بالفظائع المرتكبة في حق سكان غزة… والمحطة الثانية هي تفعيل أشغال اللجان المنبثقة عن المؤتمر.

لا يعني ذلك أن حشد الدعم سيفضي عاجلاً أم آجلاً إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، ولكنه سيبقي القضية متوهجة وحاضرة في الأذهان، لأن القضية الفلسطينية، منذ الحرب على غزة، وبالأخص منذ فصلها المروع الأخير، من حصار خانق وتجويع قاس وقنص للجوعى، أصبحت فكرة عميقة تسائل الضمير العالمي.

بيد أن الدينامية لا ينبغي أن تقتصر على الجانب الدبلوماسي، أو حتى القانوني، إذ يجب أن تمتد إلى الجانب الأخلاقي، من خلال فعاليات المجتمع المدني المتنوعة، عبر العالم، في الجامعات وعلى أعمدة الصحف، ومراكز البحث والدراسات.

ما عرفته غزة من قتل ممنهج، وبخل في توزيع المساعدات والتضييق على الأمم المتحدة وعلى الصليب الأحمر، واستهداف لكل من يهبُّون لالتقاط المساعدات، حوّل طبيعة النزاع إلى قضية أخلاقية وإنسانية بامتياز… والجانب الأخلاقي هو الجزء الثاني الأساسي من الدينامية المنشودة. وهو تحوُّل من شأنه أن يُقوّض السردية الصهيونية الزائفة التي قامت على استغلال المظلومية التاريخية.

إن إعلان حل الدولتين من قبل الأمم المتحدة، هو محطة جديدة لسردية مختلفة تماماً عن تلك التي هيمنت على الوجدان العالمي منذ المحرقة، وهو مؤشر واضح على تغيير الفاعلين الدوليين، وإعادة ضبط قواعد التعامل الدولي بالاصطفاف إلى جانب القانون والمبادئ الإنسانية، عوضاً عن القوة الغاشمة والصفقات المشبوهة.

وقد يكون ترميم وتجديد قواعد المنتظم الدولي، من بوابة مؤتمر حل الدولتين. ومن يدري، فلعل رفع لواء حل الدولتين أن يكون المدخل لحل الدولة الواحدة الديمقراطية؛ أي دولة ديمقراطية لا تقيم تمايزاً أو تفريقاً بين مواطنيها على أساس الدين أو العرق أو اللون.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة